Friday, March 25, 2011

سعد الدين الشاذلي‏..‏ وداعا بطل التحرير


ليس من المناسب هنا أن نتطرق إلي الخلاف الذي أدي إلي عزل الفريق سعد الدين الشاذلي‏,‏ بل الأجدي أن نذكر الناس بمن هو هذا البطل الذي تواري إلي الظل منذ خروجة من الجيش بعد حرب أكتوبر‏,‏ وهو في ذروة الانتصار‏.‏

لكن الظل الذي آوي إليه الشاذلي منذ ذلك اليوم‏13‏ أكتوبر‏73‏ لم يكن ثمة فرق بينه وبين الحروب‏,‏ فقد أصر الشاذلي علي إشعالها نارا بعزيمة مقاتل عاش حياته كلها علي خط النار‏.‏هذا المقاتل العنيد العتيد مارس حياة الجندية في سن مبكرة جدا‏,‏ فلم يزد عمره عن‏17‏ عاما عندما التحق بالكلية الحربية في عام‏1939‏ وتخرج بعدها‏,‏ حيث كانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت فكانت أول تجربة حربية حقيقة خاضها هي اشتباكه ضمن القوات المصرية بجانب القوات البريطانية مع القوات الألمانية الغازية‏.‏
ولكن عندما صدرت الأوامر بالإنسحاب بسبب اكتساح القائد الألماني الشهير روميل للصحراء الغربية المصرية وتحطيم الجيش الثامن البريطاني‏,‏ رفض الفني الملازم أول سعد الدين الشاذلي ذي التسعة عشر عاما أن ينسحب من أرض المعركة التي هرول منها الجنرالات وكانت هذه أول بطولة لفتت إليه الأنظار‏.‏
وفي حرب تحرير فلسطين‏1948‏ كان الشاذلي ضمن كتيبة الحرس الملكي التي شاركت في الحرب ليتجرع مرارة هزيمة تآمر حقير من القوي الدولية وبعض الخونة الداخليين لإيقاع الهزيمة بجيش مصر ومن ثم الجيوش العربية بعد أن اقتربوا من النصر‏,‏ علي الرغم من أن عتاد وعدة العرب كان أقل بكثير من العصابات الصهيونية‏.‏
وعاد الشاذلي من فلسطين مثل بقية ضباط الجيش المصري وهو علي يقين أن عدوا آخر اسمه في مصر هو الذي هزمهم في فلسطين ولذا لم يكن غريبا علي المصري الأصيل بن قرية شــــبرا تنا بمركـز بســــيون أن يعود ليضع يده في يد ضباط مصر الأحرار في‏.1951‏
وبعد قيام الثورة ونجاحها كان المقاتل العنيد مشغولا ببدلته العسكرية‏,‏ ولم يشأ أن يتدخل في أي صراعات سياسية‏,‏ ففي الوقت الذي كان الصراع علي أشده بين نجيب وناصر ومجلس قيادة الثورة قي حالة من الغليان‏,‏ كان الفتي سعد ينشئ أول فرقة مظلات ويقود عملية تحديث لجيش مصر في هذا المجال‏.‏
وعندما كانت الثورة تجتاح العالم كله ضد القوي الاستثمارية خاصة في إفريقيا كان الشاذلي يمارس عشقه العسكري حتي النخاع هناك علي رأس القوة العربية الموحدة المقاتلة تحت مظلة الأمم المتحدة قي الكونغو ليدعم الجذور الإفريقية لمصر‏.‏
وربما لم يعرف كثيرون أن الشاذلي هو القائد العسكري الوحيد الذي دخل بقوته أرض إسرائيل خلال حرب‏.1967‏
حيث تحرك بقواته تجاه الشرق بينما كان الجيش ينفذ أمر الانسحاب إلي الغرب‏.‏
وكان عليه أن ينفذ الأمر بالإنسحاب في عرض أراضي سيناء كاملة بدون غطاء جوي وناور وقاتل بشراسة حتي وصل إلي الضفة الغربية لقناة السويس محتفظا ب‏90%‏ من قواته في عمل يشبه معجزات العصور القديمة‏.‏
ولم يهدأ الشاذلي في بدلته العسكرية أبدا متنقلا بين العواصم والمواقع القيادية في القوات المسلحة المصرية حتي استقر به قدره يوم‏16‏ مايو عام‏1971‏ ويختاره أنور السادات ليكون رئيسا لهيئة أركان الحرب في أحلك ظروف مصر التي تحاول النهوض بعد هزيمة مريرة ومحاولات مستميتة لإعادة بناء القوات المسلحة لتحرير الأرض المغتصبة‏.‏
وظل الشاذلي في منصبه حتي قامت الحرب في‏6‏ أكتوبر‏.‏ تلك الحرب التي انتظرها ملايين العرب‏,‏ كان الشاذلي ثالث ثلاثة علي قمة مصر للتخطيط لها وإدارتها حيث كان موقعه كرئيس لهيئة الأركان يلي رئيس الجمهورية ووزير الحربية وكانت الخطة الخالدة التي وضع لمساتها الجوهرية في الهجوم المأذن العليا والتي لم يدفعه حماسه إلي تخطيها خلال ساعات الحرب العصيبة ولم تأخذه نشوة النجاح ولم تنسه معرفته‏-‏ كعسكري‏-‏ لقدراته وإمكاناته واعترض علي بعض القرارات بشأن الحرب مع أنور السادات والمشير أحمد إسماعيل وبدون التفاصيل التي تدخلنا في أمور لا يحسمها إلا عسكريون محترفون‏,‏ خرج الشاذلي من الحرب التي طالما خطط لها ونفذها ببراعة مع بقية زملائه الأبطال بعد ظهيرة‏6‏ أكتوبر ولكنه لم يستمتع بالنصر الذي شارك في صنعه‏,‏ ليس بسبب إلا أن للسياسة قاعدة أخري للعبة‏.‏
وكل ماتوقعه من تطور مضاد في الحرب وتسلل قوات اسرائيلية إلي غرب القناة في الدفرسوار وتم رفض خطته لتصفية الوجود الإسرائيلي وأراد السادات تصفيتها سياسيا كرئيس جمهورية يتحمل أمام التاريخ ماسوف يحدث‏.‏ أما الشاذلي فقد كان مثالا للجندي القح الذي لايعرف سوي المهام المفروضة عليه وهو يناور ولكن في ميدان الحرب وليس في ميادين السياسة وهو جدير بنصب الشراك للعدو وليس للخصوم‏,‏ أما وقد دخلت الأمور في السياسة فالأولي به أن ينزع بدلته العسكرية ويخرج من المعركة وهي لم تنته بعد وهو الأمر الملتبس‏,‏ حيث نجد وربما لأول مرة في تاريخ الحروب قائدا منتصرا ينسحب من الميدان‏.‏
ومناقشة الأمر الصادر يتصادم مع أبسط القواعد العسكرية ويخل بأصول الجندية ولذلك اكتفي بالانسحاب فلا يجوز في المعركة فعل أي شيء يؤدي للفرقة بين المحاربين‏.‏
وانتقل الشاذلي إلي الميدان الدبلوماسي سفيرا في لندن من عام‏1974‏ ليمضي سنة ثم ينتقل سفيرا إلي البرتغال حتي عام‏.1978‏
وهناك كان وضعه السياسي يتيح له أن يكون له آراءوه المعارضة للتوجهات السياسية للرئيس أنور السادات ولم يتحمل كجندي ذاق وأذاق من إسرائيل الأمرين أن يكون هناك سلام وتطبيع أعلن اعتراضه علي كامب ديفد وانضم للمعكسر الرافض لسياسة الرئيس السادات‏,,‏ هنا دارت معارك اخري ولكن ليست تلك التي اعتادها كجندي وأثبتت الأحداث أن العسكري الناجح ليس بالضرورة السياسي المثالي فكان كل يوم يخسر أمام السادات الذي استطاع أن يفرض الجميع اتباع السلام حتي سلم بذلك خصوم السادات أنفسهم فيما بعد‏.‏
وعاد الشاذلي إلي مصر بعد طول غربة في عام‏1992‏ ولكن ليجد نفسه محكوما عليه بالسجن‏3‏ سنوات والحكم صادر من محكمة عسكرية‏,‏ وغير قابل للسقوط بالتقادم‏,‏ وكان الحكم يشكل وصمة عار لمن تشرب أصول الجندية وكان الفارس قد أرغمته سنوات الغربة أن يترجل فقد كان في السبعين من العمر‏,‏ ولم يعد الجسد المنهك يتحمل سوي الاستسلام لما كتبه القدر عليه ليدخل السجن نزيلا بتهمة إفشاء أسرار عسكرية‏,‏ وعندما كتب كتابه عن الحرب وإن كان قد اعترف بخطأ الكتابة دون إذن إلا أنه رفض عار أن يكون أفشي سرا عسكريا وكان مارآه هو أنه تحدث عن خلافات سياسية وليست عسكرية لكن الحكم لايعرف وجهات النظر‏,‏ وكانت المدة التي يجب اتخاذ إجراءات وقف تنفيذ الحكم أمام محاكم الأمور المستعجلة ودائرتها الاستئنافية في مجمع محاكم عابدين بالقاهرة‏,‏ لاتكفي خاصة وأن الحكم صدر بعدم اختصاص القضاء المستعجل بقضية الفريق الذي يوغل في الشيخوخة وتوغل فيه‏.‏
وحمل الراحل عبد الحليم رمضان المحامي الشهير أوراق القضية وكل مايريده أن يبرئ واحدا من صناع النصر الكبار من تهمة لم يتح له الدفاع فيها عن نفسه‏,‏ ولكن في السجن استسلم لمصيره في انتظار ماسوف تسفر عنه الأحداث وربما أملا من القائمين علي السياسة من زملاء نصر أكتوبر القديم أمرا ما يعترف له بالجميل‏,‏ لكن أمرا ما لم يحدث ومضت رحلة القضية في روتينها القاتل الذي لن ينفع معه قصر المدة إلي‏3‏ سنوات سجنا‏.‏
وخرج الفريق سعد ينفض عن نفسه غبار سنين طويلة مرت عليه منذ مولده في فبراير‏1922‏ وحتي خروجه من السجن‏.‏
وظل يداعب ذكريات الحرب والسياسة في المسامرات وصفحات الكتب والمجلات والجرائد‏.‏
وبين ظهور نادر واحتجاب غامض ظل الشاذلي بعيدا عن أي دوائر للضوء حتي مات قبل تمام التاسعة والثمانين من العمر ولكن في يوم انشغلت عنه كل دوائر الضوء ومجالات السمع‏.‏
وجاء خبر وفاته يبعث علي إبتسامة ساخرة وسخريتها كانت مريرة لأن القدر اختار له يوم الخميس العاشر من فبراير الذي كانت ليلته هي الليلة الأخيرة التي بات فيها رفيق السلاح القديم الرئيس السابق حسني مبارك وكانت أخر ليلة في حكم مصر إذ أبت الليلة التالية أن تشهد الشاذلي حيا ومبارك رئيسا في نفس الوقت‏.‏
وتكتب في الليلتين نهاية مأساوية بين ضجيج أقلق ليل العالم لرحيل مبارك رئيسا حيا وصمت مميت لرحيل الشاذلي بطلا ميتا التقيا في صناعة نصر أكتوبر‏1973‏ وتفرقا علي البعد في شتاء فبراير‏2011

No comments:

Post a Comment